مظاهر التعايش والتسامح في الأندلس عبر الموسيقى والغناء
من طرف Admin |  نشر في : 1:56 م
0
مظاهر التعايش والتسامح في الأندلس عبر الموسيقى والغناء
مظاهر التعايش والتسامح في الأندلس عبر الموسيقى والغناء
يونس الشامي
عضو المجمع العربي للموسيقى
يجمع كل الباحثين على أن فترة الحكم الإسلامي في الأندلس التي استغرقت زهاء ثمانية قرون أعطت البشرية نموذجا فريدا من نوعه لمجتمع تمكن أفراده من العيش في تفاهم وتسامح وتآلف وتآزر رغم اختلاف انتماءاتهم العرقية واللغوية والدينية؛ ويرجع الفضل في ذلك أساسا إلى نظام الحكم الذي أخذت به مختلف الدول التي تعاقبت على السلطة في هذه البلاد، وهو النظام القائم على مبادئ الإسلام السمحة الداعية إلى الحق والعدل والمساواة والوئام والسلام. وعرفت الأندلس كذلك خلال هذه الفترة ازدهارا كبيرا رغم الفتن والحروب التي تخللت تاريخها الطويل، فخوصبة أراضيها، ووفرة مياهما، وتنوع مواردها الطبيعية، وازدهار التجارة فيها بحكم موقعها كحلقة وصل بين العالمين الإسلامي والمسيحي... كل ذلك جعل منها إحدى أغنى البقاع الإسلامية وساهم في نشر الرخاء بين أفراد مجتمعها، وقد ساعدت كل هذه العوامل على ظهور وازدهار مدنية لامعة أسهمت بنصيب وافر في إغناء التراث الحضاري الإنساني بعطاءاتها المتميزة في كل مجالات العلم والفكر والأدب والفن والعمارة...
وقد احتلت الموسيقى مكانة بارزة في هذه المدنية إذ تولع بها المجتمع الأندلسي كما لم يتولع بها مجتمع آخر، فكانت "اللغة" المشتركة التي يفهمها كافة أفراده، ويعبرون بواسطتها عن مشاعرهم وأحلامهم، لغة يسهم الجميع دون تفريق في الجنس أو العقيدة، في إبداع كلماتها وألحانها، وفي ممارستها أو الاستماع إليها، لغة تقرب بين الجميع، فتضمهم في مجالس واحدة، وتوحد أصواتهم في الغناء وآلاتهم في العزف، فجاءت ألحانها مرآة تعكس الميول الموسيقية لكل الأجناس المكونة لهذا المجتمع وتشهد على مدى ما كان بينها من ترابط وتمازج وتعايش وتعاون في ظل الحضارة العربية الإسلامية.
ولع الأندلسيين بالموسيقى:
حظيت الموسيقى بعناية كبيرة وانتشرت انتشارا واسعا في الأندلس طيلة الحكم الإسلامي، وتعددت مظاهر الحفاوة والتكريم والتقدير التي أحيط بها رجالها، وهكذا نجد على سبيل المثال أن الخليفة الحكم الأول (796-822م) يستقدم مغنين ومغنيات من المشرق مثل زرقون وعلون ومنصور والعجفاء، وأن الخليفة عبد الرحمن الثاني (822-852م) يخرج بنفسه لاستقبال زرياب عند وصوله إلى قرطبة سنة 822م وأنه يخصص في قصره جناحا للمغنيات قلم وعلم وفضل؛ وكان كثير من الأمراء والأغنياء يتوفرون في قصورهم على "ستارة الغناء" (جوق النساء) و"نوبة المغنين" (جوق الرجال)؛ ولم يفقد الموسيقيون مكانتهم الرفيعة في المجتمع حتى خلال فترات الانقسام والفتن التي كانت تمر بها البلاد أحيانا، ففي عهد ملوك الطوائف مثلا كان كل ملك يحرص على إحاطة نفسه بعدد كبير من الموسيقيين والمغنين، معتبرا أو وجودهم إلى جانب غيرهم من العلماء والأدباء والشعراء يساهم في تقوية الإشعاع الثقافي والفني لبلاطه، وإضفاء مظاهر البذخ والترف عليه.
ولم يكن هذا الاهتمام بالموسيقى مقصورا على الطبقة الحاكمة وأبناء النخبة فقط، بل إن الطبقة الشعبية أيضا كانت تشاركها ذلك؛ وكانت ممارسة الموسيقى والغناء عادة شائعة بين عامة الناس. يقول التجيبي واصفا ليالي قضاها مريضا في مالقا سنة 1015م:"... كنت إذا جنني الليل اشتد سهري وخفقت حولي أوتار العيدان والطنابير والمعازف من كل ناحية، واختلطت الأصوات بالغناء، فكان ذلك شديدا علي وزائدا في قلقي وتألمي، فكانت نفسي تعاف تلك الضروب طبعا وتكره تلك الأصوات جبلة، وأود لو أجد مسكنا لا أسمع فيه شيئا من ذلك ويتعذر علي وجوده لغلبة ذلك الشأن على تلك الناحية وكثرته عندهم"[1].
وقد وجدت الموسيقى من يدافع عنها من بين الفقهاء أنفسهم؛ يقول ابن عربي :"... وليس الغناء بحرام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد سمعه في بيته وبيت غيره، وقد وقف عليه في حياته..."[2]. ويقول الفقيه الأديب ابن عبد ربه:"... وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة الأرحام والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب..."[3].
ونظرا لما كانت عليه الموسيقى العربية من رقي وتفوق فإن بلاطات الممالك المسيحية كمملكة قشتالة وآراغون كانت لا تخلو من عازفين ومغنين مسلمين، وكذلك قصور الأمراء والنبلاء المسيحيين، وقد ظل الأمر على هذه الحال حتى بعد سقوط مملكة غرناطة. يذكر ابن بسام في الذخيرة أن "ابن الكنان المتطبب قال واصفا مجلس غناء في أحد قصور النصارى فقال: شهدت يوما مجلس العلجة بنت شنجة ملك البشكوش زوج الطاغية شنجة بن غارسية بن فردناند، وفي المجلس عدة قينات مسلمات من اللواتي وهبهن له سليمان بن الحكم أيام إمارته بقرطبة، فأومأت العلجة إلى جارية فيهن فأخذت العود وغنت به... فأحسنت وأجادت، وعلى رأس العلجة جاريات من القوامات أسيرات كأنهن فلقات قمر..."[4].
الموسيقيون:
رغم ندرة الوثائق المتعلقة بالموسيقى الأندلسية بسبب ضياعها أو تعرضها للإحراق بأمر من الكنيسة، خاصة بعد سقوط غرناطة، حيث "أمكن للمتحمسين من أتباع الكاردينال خيمينيس أن يفخروا بتمكنهم من إتلاف مليون وخمسمائة ألف مجلد"[5] ورغم كذلك قلة المعلومات التي تحتوي علها الوثائق التي سلمت من هاتين الآفتين، فإنه يمكن بالاعتماد على هذه المعلومات وعلى تلك التي يمكن العثور عليها هنا وهناك في كتب الأدب والتاريخ، إحصاء عدد غفير من الأسماء التي لمعت في سماء الموسيقى والغناء في الأندلس.
وتنتمي هذه الأسماء إلى مختلف الأقوام المكونة للمجتمع الأندلسي من عرب وأمازيغ ومولدين ويهود وغيرهم ممن صهرتهم الحضارة العربية الإسلامية في بوتقة واحدة، وكان الحنين إلى الشرق وتقديس كل ما كان مصدره منه، خاصة في بداية الحكم الإسلامي بالأندلس، والسعي إلى الحفاظ على الهوية الموسيقية العربية في هذا الوسط الجديد، قد حدا بالحكام إلى جلب الموسيقيين والمغنين من الشرق، وخاصة من المدينة ومكة وبغداد، ومنهم زرقون وعلون ومنصور والعجفاء وزرياب (789-852م) الذي يعد أعظم موسيقيي الأندلس، والذي يرجع إليه الفضل في إرساء قواعد الموسيقى العربية فيها، وعنه يقول ابن خلدون واصفا ما تركه من إرث موسيقي في هذه البلاد "فأورث فيها من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف، وطما منها بإشبيليا بحر زاخر، وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب، وانقسم على أمصارها، وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها"[6]
وقد استمرت عادة جلب القيان من المشرق إلى عهد ملوك الطوائف، لكن الأندلس أنجبت جمهرة من الموسيقيين اللامعين، نذكر منهم المغنيات حمدونة وعلية (بنتي زرياب) وهنيدة ومتعة ومصابيح وغزلان (تلميذات زرياب) وقلم وعلم وفضل... والثلاث الأخيرات كن معروفات بالمدنيات لاتباعهن أساليب أهل المدينة في غنائهن، وقد عاشت كل هؤلاء المغنيات في القرن 9م.
ومن هؤلاء الموسيقيين كذلك:
- أبو القاسم بن الفرناس المتوفى سنة 888م.
- وأسلم بن عبد العزيز زوج حمدونة بنت زرياب.
- وشلومون بن جبرول (القرن 11م) وهو من يهود الأندلس.
- ويحيى الخدج المرسي (القرن 12م).
- وأبو بكر بن يحيى الصائغ المعروف بابن باجة (1070-1138م) الفيلسوف المعروف الذي ضرب بسهم وافر في علوم شتى، كالطب والفلك والهندسة والموسيقى، وقد نوه كثير من الكتاب بنبوغه الموسيقي، فهو "في المغرب بمنزلة أبي نصر الفارابي بالمشرق، وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد"[7] وهو "فيلسوف الأندلس وإمامها في الألحان"[8].
ومن تلامذة ابن باجة الذين حافظوا على إرثه الموسيقي وأغنوه بعطاءاتهم الشخصية:
- أبو عامر بن الحمارة الغرناطي الذي برع أيضا في صناعة العيدان ونظم الشعر
- وابن جودي، وكان أيضا شاعرا إلى جانب احترافه للموسيقى
- وأبو الحسن بن الحاسب المرسي الذي يقول عنه أحمد التيفاشي "وكل تلحين يسمع بالأندلس والمغرب من شعر متأخر فهو من صنعته"[9].
ومن الموسيقيين الآخرين الذين تجدر الإشارة إليهم:
- أبو بكر الرقوطي (القرن 13م) الذي كان يعلم الموسيقى في مرسية وتابع تعليمها في هذه المدينة بعد سقوطها في أيدي المسيحيين.
- إسماعيل الشقندي المتوفى سنة 1231م، وهو صاحب الرسالة في فضل الأندلس التي أوردها المقري في نفح الطيب.
- شلومون بن ساشل، وهو يهودي عرفت أغانيه الراقصة ذيوعا كبيرا في القرن 13م.
الشعر الغنائي:
كانت مستلزمات الإبداع الموسيقي وفي مقدمتها الحاجة إلى تنويع الإيقاعات الموسيقية في الغناء، وضرورة إخضاع الجملة الكلامية للجملة اللحنية وليس العكس، سببا في الخروج عن الأوزان الشعرية التقليدية والتحرر من قيودها، وهكذا ظهر الموشح إلى الوجود. ويقول ابن سناء الملك عن الموشحات المتحررة من أوزان الشعر العربي بعد أن يئس من وضع عروض لها :"... ما لها عروض إلا التلحين ولا ضرب إلا الضرب، ولا أوتاد إلا الملاوي ولا أسباب إلا الأوتار. فبهذا العروض يعرف الموزون من المكسور، والسالم من المزحوف، وأكثرها مبني على تأليف الأرغن، والغناء بها على غير الأرغن مستعار، وعلى سواه مجاز"[10].
وقد اختلف الباحثون حول من اخترع الموشح وأكثرهم ينسب ذلك إلى مقدم بن معافى القبري الذي عاش في القرن 9م. وقد عرف الموشح انتشارا واسعا في القرن 10م وبرع فيه العديد من الشعراء أمثال عبادة القزاز وأبي بكر بن زهر وابن بقي والأعمى التطيلي وابن باجة وابن سهل الإسرائيلي وابن الخطيب وابن زمرك وغيرهم.
واستجابة لمتطلبات الغناء كانت لغة الموشح تتميز بسهولتها وعذوبتها وبموسيقى ألفاظها وسلاستها، وكانت هذه الألفاظ أحيانا ملحونة أو عامية، كما كانت أحيانا أعجمية في "الخرجة"، وهو أمر نتج عن الاختلاط الذي كان قائما بين الأجناس المختلفة المتعايشة في الأندلس وما ترتب عن ذلك من تبادل التأثير بينها. ومعلوم أن أغلبية سكان الأندلس كانت تتكلم العربية والرومانسية أو اللاتينية العامية. يقول ابن حزم إن قبيلة البلويين كانت لا تتكلم إلا العربية فقط، وهو استثناء يستفاد منه أن غيرها كان يتكلم العربية والرومانسية معا.
وإلى جانب الموشح ظهر لون آخر من الشعر الغنائي، هو الزجل الذي سمي كذلك لترجيع الصوت به في الإنشاد، وهو شعر عامي كله عربي وأحيانا تخالطه ألفاظ أعجمية؛ وهو يشترك مع الموشح في أسباب نشأته وانتشاره، وهي الموسيقى والغناء وحاجة الناس إلى التعبير عن عواطفهم وأحاسيسهم نظما وشدوا باللغة العامية المتداولة في حياتهم اليومية. وكما اختلف في أمر من اخترع الموشح فقد اختلف أيضا في أمر من اخترع الزجل، إلا أن أغلب الباحثين يتفقون على أن أول من اشتهر به هو أبو بكر بن قزمان (1087-1160م)، وهو من أصل إسباني، وكان من المقربين من الخليفة عبد المومن الموحدي. يقول ابن سعيد :"قيلت (أي الأزجال) بالأندلس قبل أبي بكر بن قزمان، ولكن لم تظهر حلاها ولا انسكبت معانيها ولا اشتهرت رشاقتها إلا في زمانه، وكان في زمان الملثمين، وهو إمام الزجالين على الإطلاق"[11].
ومن الزجالين الذين يجدر ذكرهم وإن كان معظم إنتاجهم قد ضاع: أحمد بن الحاج مدغليس وابن غرلة والزاهد الإشبيلي وابن الحبيب الجزري وعلي بن جحدر... ومن الزجالات نزهون بنت القلاعي الغزناطية وأم الكرام بنت المعتصم بن صمادح...
وقد عرف الزجل انتشارا واسعا في كل أنحاء الوطن العربي. يقول ابن سعيد عن أزجال ابن قزمان :" وأزجاله المدونة رأيتها في بغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب"[12] ولم يكن تداول الزجل مقصورا على أبناء الطبقات الشعبية فقط، بل إنه عرف إقبالا كبيرا حتى بين أبناء الطبقات الراقية والمثقفة. وتجدر الإشارة إلى أن رجال الصوفية وأهل الذكر قد نظموا هم أيضا على منواله واستخدموه في حلقات الذكر والسماع، ومنهم على الخصوص ابن عربي والششتري.
التأليف الموسيقي:
كانت الموسيقى الأندلسية وما زالت حتى اليوم تتناقل بين الناس وتتوارث بين الأجيال عن طريق التواتر الشفوي، شأنها في ذلك شأن باقي أنواع الموسيقى العربية. وككل تراث لم يدون ضاع القسم الأكبر من هذه الموسيقى ونالها بالتأكيد كثير من التحريف على ألسنة الرواة، فلم يعد بإمكان أحد اليوم أن يعرف، ولو على وجه التقريب، حقيقة تلك الألحان التي تروي كتب التاريخ أنها كانت تبلغ أحيانا درجة من الروعة تجعل بعض الخلفاء والملوك والأمراء يفقدون صوابهم لدى سماعها، فهذا يمزق ثيابه وذاك يرمي بنفسه في بركة قصره وثالث يقسم على مطربه ألا يعود إلى بيته إلا مشيا على الذهب... وهي أقوال وإن كان فيها أحيانا شيء من المبالغة فإنها لا تخلو دائما من الصدق وإن تعذر إحياء تلك الألحان. ورغم هذه الآفة التي لحقت بالموسيقى العربية عموما، ومنها الموسيقى الأندلسية فإنه يمكن تسطير الملامح العامة لما كانت تتميز به المدرسة الموسيقية الأندلسية، وذلك استنادا إلى أقوال المؤرخين وملاحظاتهم من جهة، ومن جهة ثانية اعتمادا على ما يفضي إليه تحليل الموسيقى الأندلسية المغربية الحالية، وهي الموسيقى التي تعتبر الوريثة المباشرة للموسيقى الأندلسية لعدة اعتبارات، أهمها تجاور العدوتين المغربية والأندلسية، وخضوعهما مدة طويلة لحكم واحد خلال العهد المرابطي والموحدي، واستقبال المغرب لأغلب المهاجرين الأندلسيين بعد نزوحهم من بلادهم إثر سقوطها في أيدي المسيحيين، وحفاظه على استقلاله في وجه التوسع العثماني وبالتالي إفلات موسيقاه من تأثير الموسيقى التركية.
ويستدل من أقوال المؤرخين أن الأندلسيين كانوا، على الأقل في بداية عهدهم بهذه البلاد، يحنون إلى كل ما هو من الشرق، وأنهم ظلوا مدة طويلة يستقدمون الموسيقيين والمغنين من المشرق، ومنهم زرياب الذي ترك بصمته القوية على هذه الموسيقى، وبالتالي فإن الموسيقى التي كانت لها الحظوة عندهم هي الموسيقى العربية القديمة التي كان إسحاق الموصلى أحد المحافظين عليها، وهي التي لقنها لتلميذه زرياب الذي نشرها بدوره في الأندلس، وتتميز هذه الموسيقى على وجه الخصوص باستعمال السلم الموسيقى الطبيعي المعروف بالبيتاغوري، وربط الطبوع الموسيقية (أي المقامات في الاصطلاح الشرقي) باعتبارات فلكية وروحية، واتباع طريقة مخصوصة في الغناء تسمى النوبة، وهي عبارة عن مجموعة متتابعة من القطع الغنائية والآلية المؤداة على طبع (أو مقام) واحد، وعلى إيقاعات مختلفة، وبحركة تبدأ ببطء في مستهل النوبة لتنتهي بسرعة كبيرة في نهايتها. وكل نوبة تحمل اسم الطبع الذي لحنت عليه وتؤدى في ساعة مخصصة لها، وهي الساعة التي يعتقد أن تأثير ذلك الطبع يكون فيها أقوى في النفوس من أي وقت آخر.
وقد تركت شخصية أخرى أثرها القوي على هذه المدرسة، وهي ابن باجة الذي كان منظرا كبيرا، وملحنا متميزا، وعازفا بارعا على العود، وكان ينهج طريقة خاصة في تلاحينه، يعمد فيها إلى إدماج عناصر موسيقية شرقية بأخرى محلية مسيحية، وقد نالت إقبالا عظيما، وعرفت شهرة واسعة. يقول عنه أحمد التيفاشي :" واعتكف مدة سنين مع جوار محسنات، فهذب الاستهلال والعمل (من الأجزاء المكونة للنوبة) ومزج غناء النصارى بغناء المشرق، واخترع طريقة لا توجد إلا بالأندلس، مال إليها طبع أهلها فرفضوا ما سواها..."[13].
وفي غياب تفاصيل أخرى عن هذه الطريقة وانعدام أية نصوص موسيقية مدونة تعطي فكرة عن الألحان المؤلفة بها فإنه يصعب معرفة الجديد الذي أتى به ابن باجة والذي عمل تلاميذه على الحفاظ عليه ونشره.
وإذا ما حللنا الطبوع التي تستخدمها حاليا الموسيقى الأندلسية المغربية فإننا نلاحظ أنها –وإن اشتركت مع الطبوع المستعملة في الموسيقى الأندلسية الجزائرية في بعض الخصائص- فإنها تختلف اختلافا بينا عن الطبوع والمقامات التي تستخدمها موسيقى باقي الأقطار العربية، فهي ذات سلالم طبيعية خالية من أرباع أو ثلاثة أرباع الصوت، كما أن سلالمها لا تنقسم كلها إلى عقود أو أجناس كما هو الحال بالنسبة للمقامات الشرقية، وبعض هذه الطبوع لا نجدها في الوطن العربي خارج الموسيقى الأندلسية الخاصة بالمغرب والجزائر، وهي موجودة في بعض أقطار أوربا الشرقية الجنوبية، وفي الغناء الكنسي، كطبع رمل الماية وحمدان والصيكة.
ويمكن تقسيم سلالم هذه الطبوع إلى ثلاثة أقسام:
1. سلالم طبيعية (بيتاغورية) ومنها سلالم طبوع رمل الماية والحسين والصيكة وحمدان والأصبهان والمية... (نماذج موسيقية تؤدى بصوت صاحب البحث)
2. سلالم مركبة تحمل طابعا شرقيا واضحا وتتركب من عقود على غرار المقامات الشرقية، ومنها طبوع الحجاز الكبير والزوركند والزيدان... (أمثلة).
3. سلالم ذات طابع خماسي، ومنها طبوع الرصد والحصار والديل. وتوجد آثار لهذا السلم في مقاطع كثير من الصنائع الملحنة على طبوع أخرى. (أمثلة).
والمتأمل في هذه الطبوع والصنائع الملحنة عليها يلمس فيها مؤثرات أندلسية محلية وأخرى شرقية وأخرى أمازيغية تعكس الانصهار الذي حصل بين الثقافات الموسيقية العربية والأمازيغية والإسبانية.
الآلات الموسيقية:
ازدهرت صناعة الآلات الموسيقية في الأندلس وتعددت أنواع هذه الآلات نتيجة لما عرفته الموسيقى من انتشار واسع، وما حظيت به من رعاية وتشجيع من لدن الطبقة الحاكمة. وقد ازدهرت هذه الصناعة في كثير من المدن، وخاصة منها إشبيليا التي قال عنها أبو الوليد الشقندي المتوفى سنة 1231م في رسالته في فضل الأندلس إنها "قاعدة صناعة الملاهي وآلات الطرب، وليس في بر العدوة من هذا شيء إلا جلب إليه من الأندلس"[14].
وإذا أحصينا عدد الآلات التي ذكرها الشقندي في هذه الرسالة وتلك التي ذكرها ابن الدراج السبتي المتوفى سنة 1294م في كتاب الامتناع والانتفاع، وأحمد التيفاشي المتوفى سنة 1253م في كتاب متعة الأسماع في علم السماع، وأضفنا إليها أسماء غيرها من الآلات المذكورة في مصادر أخرى فسنجد أن عددها يفوق سبعين آلة ما بين وترية وهوائية وإيقاعية، بعضها معروف وما زال متداولا، وأغلبها مجهول أو انقرض. وقد ظهرت صور بعض هذه الآلات ضمن الإحدى وخمسين منيمنة التي تزين "أناشيد القديسة مريم" (Las cantigas de Santa Maria) التي أمر الملك ألفونسو العاشر بجمعها في القرن 13م، وبعضها يمثل موسيقيين مسلمين يعزفون على آلاتهم بمعية موسيقيين مسيحيين، الأمر الذي يستنتج منه أن هذا المشهد كان مألوفا في ذلك العصر.
إشعاع الموسيقى الأندلسية:
بلغت الحضارة العربية الإسلامية درجة من التطور والرقي جعلتها تؤثر تأثيرا قويا على مختلف مجالات الحياة في أوربا وتمهد الطريق لقيام «النهضة» بها. وكانت الأندلس أحد المعابر الأساسية لدخول المؤثرات الحضارية العربية إلى أوربا، والموسيقى-باعتبارها لغة سريعة الانتقال، لا تعرف الحدود ولا تحتاج إلى ترجمة لفهمها والتخاطب بها-كانت من الميادين الأولى التي ظهرت عليها آثار الحضارة العربية الإسلامية، سواء على مستوى الألحان أو الكلمات أو الآلات.
فعلى مستوى الألحان نجد أن الموسيقى العربية أثرت على ألوان مختلفة من الموسيقى في جنوب غرب أوربا، بما فيها الدينية، وهكذا نجد أن الترتيل الكنسي الإسباني المعروف بالإيزيدوري أو الأوجيني (Plain-chant isidorien ou eugénien) نسبة إلى واضعيه: القديس إيزيدور والقديس أوجين، قد اصطبغ بصبغة شرقية، وزين بكثير من الزخارف الموسيقية المميزة للموسيقى العربية، فأصبح معروفا بالترتيل الكنسي "المستعرب" (mozarabe)؛ ومعلوم أن الدولة الإسلامية في الأندلس قد ضمنت لأتباع كافة الديانات السماوية حرية العبادة وسمحت لهم بالحفاظ على تقاليدهم وعاداتهم، وإذا كان الغناء الديني نفسه قد تأثر بالموسيقى العربية على هذا النحو فإن الغناء الدنيوي قد تأثر بها على نحو أعمق، خاصة في إسبانيا والبرتغال، ومنها الأغاني المعروفة ب Las seguidillas وlas soleares، ومنها أيضا الأغاني التي ظلت محافظة على أسمائها العربية مثل Las zambras وLas hudas وLas aravias أي أغاني السمر والحداة والأغاني العربية... ومنها أيضا أغاني الفلامنكو الشبيهة جدا بالمواويل العربية.
ومن مظاهر هذا التأثير كذلك اتباع قالب النوبة في التأليف الآلي الغربي المعروف ب Suite أو "الوصلة"، وهي مجموعة من القطع الآلية تتبع في أدائها حركات مختلفة تبدأ عموما بافتتاحية غير موزونة تعقبها حركات تتدرج سرعتها من الثقيلة (الموسعة) إلى الخفيفة السريعة ("المصرفة")، وهذا هو النظام المتبع في أداء ميزان النوبة. وتشترك الوصلة (la suite) مع النوبة في خاصية أخرى، وهي وحدة المقام أو الطبع (Tonalité) الذي تلحن عليه قطعها. ويلاحظ أن كلمة suite ليست سوى ترجمة لكلمة نوبة وأن للفظتين مدلولا واحدا.
وأثرت الموسيقى الأندلسية كذلك على نظيرتها الغربية بشعرها الغنائي، وهكذا نجد أن الأشعار التي كان يتغنى بها شعراء التروباور (Troubadours) في إقليمي بروفانسيا ولانكدوك بجنوب فرنسا، وشعراء الطروفير (Trouvères) في شمالها، والمينيسانجر (Minnesangers) في ألمانيا، كانت من حيث القالب والمضمون مستوحاة من الموشح والزجل، وهي تقتبس منهما نفس الأغراض، وتستخدم نفس الصور والمعاني، بل وتذهب إلى حد مخاطبة الحبيبة بصيغة المذكر وتشبيهها بالغزال-الحيوان الغريب عن البيئة الأوربية- والشكوى من الرقيب والحاسد، والعاذل... إلى غير ذلك مما لم يكن معروفا في الأدب الغربي قبل احتكاكه بالأدب العربي الأندلسي؛ ويلاحظ أن "القصائد" التي تشتمل عليها "أناشيد القديسة مريم" المشار إليها سابقا تشبه إلى حد كبير أزجال أبي الحسن الششتري.
هذا ويلاحظ أيضا ظهور شعر عبري منظوم على غرار الزجل إلى جانب ترجمة وتقليد قوالب شعرية ونثرية من الأدب العربي إلى الأدب العبري.
أما على مستوى الآلات الموسيقية، فنجد أن كثيرا منها انتقل إلى أوربا وظل محتفظا باسمه الأصلي، ومن هذه الآلات العود (Luth بالفرنسية) الذي كان وما زال أهم آلة موسيقية عربية والذي كتب له أن يكون الآلة المفضلة للشعراء المغنين المتجولين من التروبادور والتروفير، ثم أصبح أهم آلة موسيقية خلال عصر النهضة، تفنن الصناع في زخرفته واخترعوا على غراره أنواعا جديدة بأحجام مختلفة، وتنافس الموسيقيون في التأليف له والعزف عليه، واستخدم كآلة فردية إلى جانب استخدامه ضمن المجموعات الآلية المختلفة، ولم يفقد مكانته في الموسيقى الأوربية إلا في منتصف القرن الثامن عشر عندما أزاحته وحلت محله الآلات ذات الملامس والأقواس.
ومن الآلات العربية التي انتشرت في أوربا كذلك الرباب (Rebec) والقيثارة (guitare) والبوق (buccin) والبندير (pandero) والدف (adufe) والطنبور (tambour) ... وبعض هذه الآلات كان هو الأصل الذي انحدرت منه آلات أخرى بعد عمليات التطوير والتحسين المتوالية التي كانت تخضع لها لمواكبة التطور التدريجي للموسيقى الأوربية، ومنها على سبيل المثال الرباب الذي تفرع عنه الكمان والألطو والتشيلو... ومنها أيضا آلة الشقير أو الشقرة التي ذكر عالم الآلات الألماني كورت زاكس أنها هي الجد الأعلى للبيانو، فأقدم اسم أطلق على هذه الآلة الأوربية هو Echiquier بالفرنسية، وهو تحريف للفظ العربي "الشقير" الذي ورد ذكره ضمن أسماء الآلات الموسيقية التي عددها أبو الوليد الشقندي في رسالته في فضل الأندلس، وكان هذا الاسم يطلق حتى القرن الرابع عشر على آلة صغيرة ذات ملامس بيضاء وسوداء تشبه البيانو.
ومعلوم أن الآلات الموسيقية لا تنتقل من ثقافة موسيقية إلى أخرى إلا ومعها قدر من تقنيات العزف عليها ومن الموسيقى الخاصة بها والتي صممت تلك الآلات أصلا لأدائها. ومما ساعد أيضا على نشر الموسيقى العربية وآلاتها في أوربا استخدام كثير من الموسيقيين المسلمين في بلاطات الملوك المسيحيين نظرا لكفاءائهم الفنية العالية وكذلك وقوع الآلاف من الأسرى المسلمين ذكورا ونساء في أيدي الأوربيين في أعقاب حروب الاسترداد، وذلك في شمال شبه الجزيرة الإيبيرية وفي أقاليم بروفانسيا وآكيتينيا ونورمانديا وبورغونيا..
بعد سقوط غرناطة آخر معاقل الإسلام في الأندلس، بدأ المسلمون يتعرضون لموجة من الاضطهاد لا مثيل لها في التاريخ، استهدفت محو وجودهم في هذه البلاد وطمس معالم حضارتهم فيها، فقد كان القتل والنفي أو السجن والتعذيب في انتظار كل من يرفض التنصر والذوبان المطلق في المجتمع المسيحي، وحرم على المسلمين ارتداء ملابسهم الوطنية والقيام بشعائرهم الدينية، والتخاطب بلغتهم العربية، بل وحتى ترديد أغانيهم وأهازيجهم، وهكذا انطفأت شعلة الموسيقى الأندلسية في موطنها الأصلي، ونزح ما تبقى منها مع النازحين إلى بلاد المغرب فرارا من الاضطهاد والكراهية والتعصب الأعمى؛ ومع أن هذه الموسيقى قد فقدت جراء ما وقع لها ولحَمَلَتها من محن ومآسي الكثير من رونقها وبريقها الأصليين، فإنها ظلت تلهم كبار المؤلفين الموسيقيين حتى عصرنا الحديث من أمثال غرانادوس ودي فايا وألبينيتز ورافيل وديبوسي وكورساكوف وكلنكا... وهي تعد اليوم، بقيمتها الأدبية والفنية، إرثا ثقافيا ضخما للبشرية جمعاء يتعين الحفاظ عليه وصيانته، وستظل عبر التاريخ مرآة لحضارة مشرقة وضاءة تمكن بُنَاتها بفضل تكافلهم وتسامحهم الواسع من أن يجعلوا من عهدها واحدا من أكثر عهود التاريخ رخاء وعطاء وإبداعا سواء بالنسبة للإسلام أو المسيحية أو اليهودية.
الحـواشي والمـراجع
I- الحـواشي:
"المختار من شعر بشار..." القاهرة – ص 16
"عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" ج5 –ص281- مكتبة المعارف-بيروت
العقد الفريد – ج26- ص8- مكتبة صادر- بيروت
ابن بسام- الذخيرة- ج3- ص318- 319
S. Hunke- le Soleil d’Allah brille sur l’occident
AlBin Michel -Paris P381
المقدمة –ص428- مطبعة دار القلم – بيروت (1981)
أحمد المقري- نفح الطيب، ج3-ص185
ابن سعدي- المغرب في حلى المغرب- ج2- ص119- تحقيق شوقي ضيف- مطبعة دار
المعارف- 1953
أحمد التيفاشي -"متعة الأسماع في علم السماع" مجلة الأبحاث- م21- ع2-3-4-1968-
ص114-115
درا الطراز – الورقة 13 و
ابن سعيد- المقتطف- ص 483
المرجع السابق- نفس الصفحة
متعة الأسماع (المرجع السابق)
نفح الطيب – ج3- ص213
II-المـراجع:
[1] عباس إحسان- تاريخ الأدب الأندلسي- بيروت 1960-1961.
[2] أبو الفرج الأصبهاني- كتاب الأغاني- بيروت 1970.
[3] Alain Daniélou-Traité de musicologie comparée - Paris 1959
[4] Dozy-Histoire des musulmans d’Espagne-leyde-1932
[5] Encyclopédie de la musique Dir.A. Lavignac. Paris, 1913-1922
[6] Rodolphe d’Erlanger-la musique arabe. Paris 1930-1959
[7] تاريخ الموسيقى العربية لهنري فارمر Henri Farmer ترجمة فتح الله المحامي- بيروت 1972.
[8] فيليب حتى-تاريخ العرب- بيروت 1966.
[9] Mahmoud Guettat-la musique arabo-andalouse-Paris 2001
[10] Sigrid Hunke-le Soleil d’Allah brille sur l’occident : notre héritage arabe- Paris 1963
[11] ابن عبد ربه- العقد الفريد- القاهرة 1950.
[12] ابن حزم – طوق الحمامة- القاهرة 1955.
[13] ابن خلدون – المقدمة-
[14]عباس الجراري- موشحات مغربية- البيضاء 1973- الزجل في المغرب- الرباط 1970.
[15]Levi- Provençal-Islam d’occident - Paris 1948
[16]ـ من كنوزها- فؤاد رجائي- حلب 1955
[17]ـ تراثنا الموسيقى- الجنة الموسيقية العليا- القاهرة
[18]ـ عبد العزيز بن عبد الجليل-مدخل إلى الموسيقى المغربية-الكويت- 1983.
يونس الشامي
عضو المجمع العربي للموسيقى
يجمع كل الباحثين على أن فترة الحكم الإسلامي في الأندلس التي استغرقت زهاء ثمانية قرون أعطت البشرية نموذجا فريدا من نوعه لمجتمع تمكن أفراده من العيش في تفاهم وتسامح وتآلف وتآزر رغم اختلاف انتماءاتهم العرقية واللغوية والدينية؛ ويرجع الفضل في ذلك أساسا إلى نظام الحكم الذي أخذت به مختلف الدول التي تعاقبت على السلطة في هذه البلاد، وهو النظام القائم على مبادئ الإسلام السمحة الداعية إلى الحق والعدل والمساواة والوئام والسلام. وعرفت الأندلس كذلك خلال هذه الفترة ازدهارا كبيرا رغم الفتن والحروب التي تخللت تاريخها الطويل، فخوصبة أراضيها، ووفرة مياهما، وتنوع مواردها الطبيعية، وازدهار التجارة فيها بحكم موقعها كحلقة وصل بين العالمين الإسلامي والمسيحي... كل ذلك جعل منها إحدى أغنى البقاع الإسلامية وساهم في نشر الرخاء بين أفراد مجتمعها، وقد ساعدت كل هذه العوامل على ظهور وازدهار مدنية لامعة أسهمت بنصيب وافر في إغناء التراث الحضاري الإنساني بعطاءاتها المتميزة في كل مجالات العلم والفكر والأدب والفن والعمارة...
وقد احتلت الموسيقى مكانة بارزة في هذه المدنية إذ تولع بها المجتمع الأندلسي كما لم يتولع بها مجتمع آخر، فكانت "اللغة" المشتركة التي يفهمها كافة أفراده، ويعبرون بواسطتها عن مشاعرهم وأحلامهم، لغة يسهم الجميع دون تفريق في الجنس أو العقيدة، في إبداع كلماتها وألحانها، وفي ممارستها أو الاستماع إليها، لغة تقرب بين الجميع، فتضمهم في مجالس واحدة، وتوحد أصواتهم في الغناء وآلاتهم في العزف، فجاءت ألحانها مرآة تعكس الميول الموسيقية لكل الأجناس المكونة لهذا المجتمع وتشهد على مدى ما كان بينها من ترابط وتمازج وتعايش وتعاون في ظل الحضارة العربية الإسلامية.
ولع الأندلسيين بالموسيقى:
حظيت الموسيقى بعناية كبيرة وانتشرت انتشارا واسعا في الأندلس طيلة الحكم الإسلامي، وتعددت مظاهر الحفاوة والتكريم والتقدير التي أحيط بها رجالها، وهكذا نجد على سبيل المثال أن الخليفة الحكم الأول (796-822م) يستقدم مغنين ومغنيات من المشرق مثل زرقون وعلون ومنصور والعجفاء، وأن الخليفة عبد الرحمن الثاني (822-852م) يخرج بنفسه لاستقبال زرياب عند وصوله إلى قرطبة سنة 822م وأنه يخصص في قصره جناحا للمغنيات قلم وعلم وفضل؛ وكان كثير من الأمراء والأغنياء يتوفرون في قصورهم على "ستارة الغناء" (جوق النساء) و"نوبة المغنين" (جوق الرجال)؛ ولم يفقد الموسيقيون مكانتهم الرفيعة في المجتمع حتى خلال فترات الانقسام والفتن التي كانت تمر بها البلاد أحيانا، ففي عهد ملوك الطوائف مثلا كان كل ملك يحرص على إحاطة نفسه بعدد كبير من الموسيقيين والمغنين، معتبرا أو وجودهم إلى جانب غيرهم من العلماء والأدباء والشعراء يساهم في تقوية الإشعاع الثقافي والفني لبلاطه، وإضفاء مظاهر البذخ والترف عليه.
ولم يكن هذا الاهتمام بالموسيقى مقصورا على الطبقة الحاكمة وأبناء النخبة فقط، بل إن الطبقة الشعبية أيضا كانت تشاركها ذلك؛ وكانت ممارسة الموسيقى والغناء عادة شائعة بين عامة الناس. يقول التجيبي واصفا ليالي قضاها مريضا في مالقا سنة 1015م:"... كنت إذا جنني الليل اشتد سهري وخفقت حولي أوتار العيدان والطنابير والمعازف من كل ناحية، واختلطت الأصوات بالغناء، فكان ذلك شديدا علي وزائدا في قلقي وتألمي، فكانت نفسي تعاف تلك الضروب طبعا وتكره تلك الأصوات جبلة، وأود لو أجد مسكنا لا أسمع فيه شيئا من ذلك ويتعذر علي وجوده لغلبة ذلك الشأن على تلك الناحية وكثرته عندهم"[1].
وقد وجدت الموسيقى من يدافع عنها من بين الفقهاء أنفسهم؛ يقول ابن عربي :"... وليس الغناء بحرام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد سمعه في بيته وبيت غيره، وقد وقف عليه في حياته..."[2]. ويقول الفقيه الأديب ابن عبد ربه:"... وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة الأرحام والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب..."[3].
ونظرا لما كانت عليه الموسيقى العربية من رقي وتفوق فإن بلاطات الممالك المسيحية كمملكة قشتالة وآراغون كانت لا تخلو من عازفين ومغنين مسلمين، وكذلك قصور الأمراء والنبلاء المسيحيين، وقد ظل الأمر على هذه الحال حتى بعد سقوط مملكة غرناطة. يذكر ابن بسام في الذخيرة أن "ابن الكنان المتطبب قال واصفا مجلس غناء في أحد قصور النصارى فقال: شهدت يوما مجلس العلجة بنت شنجة ملك البشكوش زوج الطاغية شنجة بن غارسية بن فردناند، وفي المجلس عدة قينات مسلمات من اللواتي وهبهن له سليمان بن الحكم أيام إمارته بقرطبة، فأومأت العلجة إلى جارية فيهن فأخذت العود وغنت به... فأحسنت وأجادت، وعلى رأس العلجة جاريات من القوامات أسيرات كأنهن فلقات قمر..."[4].
الموسيقيون:
رغم ندرة الوثائق المتعلقة بالموسيقى الأندلسية بسبب ضياعها أو تعرضها للإحراق بأمر من الكنيسة، خاصة بعد سقوط غرناطة، حيث "أمكن للمتحمسين من أتباع الكاردينال خيمينيس أن يفخروا بتمكنهم من إتلاف مليون وخمسمائة ألف مجلد"[5] ورغم كذلك قلة المعلومات التي تحتوي علها الوثائق التي سلمت من هاتين الآفتين، فإنه يمكن بالاعتماد على هذه المعلومات وعلى تلك التي يمكن العثور عليها هنا وهناك في كتب الأدب والتاريخ، إحصاء عدد غفير من الأسماء التي لمعت في سماء الموسيقى والغناء في الأندلس.
وتنتمي هذه الأسماء إلى مختلف الأقوام المكونة للمجتمع الأندلسي من عرب وأمازيغ ومولدين ويهود وغيرهم ممن صهرتهم الحضارة العربية الإسلامية في بوتقة واحدة، وكان الحنين إلى الشرق وتقديس كل ما كان مصدره منه، خاصة في بداية الحكم الإسلامي بالأندلس، والسعي إلى الحفاظ على الهوية الموسيقية العربية في هذا الوسط الجديد، قد حدا بالحكام إلى جلب الموسيقيين والمغنين من الشرق، وخاصة من المدينة ومكة وبغداد، ومنهم زرقون وعلون ومنصور والعجفاء وزرياب (789-852م) الذي يعد أعظم موسيقيي الأندلس، والذي يرجع إليه الفضل في إرساء قواعد الموسيقى العربية فيها، وعنه يقول ابن خلدون واصفا ما تركه من إرث موسيقي في هذه البلاد "فأورث فيها من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف، وطما منها بإشبيليا بحر زاخر، وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب، وانقسم على أمصارها، وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها"[6]
وقد استمرت عادة جلب القيان من المشرق إلى عهد ملوك الطوائف، لكن الأندلس أنجبت جمهرة من الموسيقيين اللامعين، نذكر منهم المغنيات حمدونة وعلية (بنتي زرياب) وهنيدة ومتعة ومصابيح وغزلان (تلميذات زرياب) وقلم وعلم وفضل... والثلاث الأخيرات كن معروفات بالمدنيات لاتباعهن أساليب أهل المدينة في غنائهن، وقد عاشت كل هؤلاء المغنيات في القرن 9م.
ومن هؤلاء الموسيقيين كذلك:
- أبو القاسم بن الفرناس المتوفى سنة 888م.
- وأسلم بن عبد العزيز زوج حمدونة بنت زرياب.
- وشلومون بن جبرول (القرن 11م) وهو من يهود الأندلس.
- ويحيى الخدج المرسي (القرن 12م).
- وأبو بكر بن يحيى الصائغ المعروف بابن باجة (1070-1138م) الفيلسوف المعروف الذي ضرب بسهم وافر في علوم شتى، كالطب والفلك والهندسة والموسيقى، وقد نوه كثير من الكتاب بنبوغه الموسيقي، فهو "في المغرب بمنزلة أبي نصر الفارابي بالمشرق، وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد"[7] وهو "فيلسوف الأندلس وإمامها في الألحان"[8].
ومن تلامذة ابن باجة الذين حافظوا على إرثه الموسيقي وأغنوه بعطاءاتهم الشخصية:
- أبو عامر بن الحمارة الغرناطي الذي برع أيضا في صناعة العيدان ونظم الشعر
- وابن جودي، وكان أيضا شاعرا إلى جانب احترافه للموسيقى
- وأبو الحسن بن الحاسب المرسي الذي يقول عنه أحمد التيفاشي "وكل تلحين يسمع بالأندلس والمغرب من شعر متأخر فهو من صنعته"[9].
ومن الموسيقيين الآخرين الذين تجدر الإشارة إليهم:
- أبو بكر الرقوطي (القرن 13م) الذي كان يعلم الموسيقى في مرسية وتابع تعليمها في هذه المدينة بعد سقوطها في أيدي المسيحيين.
- إسماعيل الشقندي المتوفى سنة 1231م، وهو صاحب الرسالة في فضل الأندلس التي أوردها المقري في نفح الطيب.
- شلومون بن ساشل، وهو يهودي عرفت أغانيه الراقصة ذيوعا كبيرا في القرن 13م.
الشعر الغنائي:
كانت مستلزمات الإبداع الموسيقي وفي مقدمتها الحاجة إلى تنويع الإيقاعات الموسيقية في الغناء، وضرورة إخضاع الجملة الكلامية للجملة اللحنية وليس العكس، سببا في الخروج عن الأوزان الشعرية التقليدية والتحرر من قيودها، وهكذا ظهر الموشح إلى الوجود. ويقول ابن سناء الملك عن الموشحات المتحررة من أوزان الشعر العربي بعد أن يئس من وضع عروض لها :"... ما لها عروض إلا التلحين ولا ضرب إلا الضرب، ولا أوتاد إلا الملاوي ولا أسباب إلا الأوتار. فبهذا العروض يعرف الموزون من المكسور، والسالم من المزحوف، وأكثرها مبني على تأليف الأرغن، والغناء بها على غير الأرغن مستعار، وعلى سواه مجاز"[10].
وقد اختلف الباحثون حول من اخترع الموشح وأكثرهم ينسب ذلك إلى مقدم بن معافى القبري الذي عاش في القرن 9م. وقد عرف الموشح انتشارا واسعا في القرن 10م وبرع فيه العديد من الشعراء أمثال عبادة القزاز وأبي بكر بن زهر وابن بقي والأعمى التطيلي وابن باجة وابن سهل الإسرائيلي وابن الخطيب وابن زمرك وغيرهم.
واستجابة لمتطلبات الغناء كانت لغة الموشح تتميز بسهولتها وعذوبتها وبموسيقى ألفاظها وسلاستها، وكانت هذه الألفاظ أحيانا ملحونة أو عامية، كما كانت أحيانا أعجمية في "الخرجة"، وهو أمر نتج عن الاختلاط الذي كان قائما بين الأجناس المختلفة المتعايشة في الأندلس وما ترتب عن ذلك من تبادل التأثير بينها. ومعلوم أن أغلبية سكان الأندلس كانت تتكلم العربية والرومانسية أو اللاتينية العامية. يقول ابن حزم إن قبيلة البلويين كانت لا تتكلم إلا العربية فقط، وهو استثناء يستفاد منه أن غيرها كان يتكلم العربية والرومانسية معا.
وإلى جانب الموشح ظهر لون آخر من الشعر الغنائي، هو الزجل الذي سمي كذلك لترجيع الصوت به في الإنشاد، وهو شعر عامي كله عربي وأحيانا تخالطه ألفاظ أعجمية؛ وهو يشترك مع الموشح في أسباب نشأته وانتشاره، وهي الموسيقى والغناء وحاجة الناس إلى التعبير عن عواطفهم وأحاسيسهم نظما وشدوا باللغة العامية المتداولة في حياتهم اليومية. وكما اختلف في أمر من اخترع الموشح فقد اختلف أيضا في أمر من اخترع الزجل، إلا أن أغلب الباحثين يتفقون على أن أول من اشتهر به هو أبو بكر بن قزمان (1087-1160م)، وهو من أصل إسباني، وكان من المقربين من الخليفة عبد المومن الموحدي. يقول ابن سعيد :"قيلت (أي الأزجال) بالأندلس قبل أبي بكر بن قزمان، ولكن لم تظهر حلاها ولا انسكبت معانيها ولا اشتهرت رشاقتها إلا في زمانه، وكان في زمان الملثمين، وهو إمام الزجالين على الإطلاق"[11].
ومن الزجالين الذين يجدر ذكرهم وإن كان معظم إنتاجهم قد ضاع: أحمد بن الحاج مدغليس وابن غرلة والزاهد الإشبيلي وابن الحبيب الجزري وعلي بن جحدر... ومن الزجالات نزهون بنت القلاعي الغزناطية وأم الكرام بنت المعتصم بن صمادح...
وقد عرف الزجل انتشارا واسعا في كل أنحاء الوطن العربي. يقول ابن سعيد عن أزجال ابن قزمان :" وأزجاله المدونة رأيتها في بغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب"[12] ولم يكن تداول الزجل مقصورا على أبناء الطبقات الشعبية فقط، بل إنه عرف إقبالا كبيرا حتى بين أبناء الطبقات الراقية والمثقفة. وتجدر الإشارة إلى أن رجال الصوفية وأهل الذكر قد نظموا هم أيضا على منواله واستخدموه في حلقات الذكر والسماع، ومنهم على الخصوص ابن عربي والششتري.
التأليف الموسيقي:
كانت الموسيقى الأندلسية وما زالت حتى اليوم تتناقل بين الناس وتتوارث بين الأجيال عن طريق التواتر الشفوي، شأنها في ذلك شأن باقي أنواع الموسيقى العربية. وككل تراث لم يدون ضاع القسم الأكبر من هذه الموسيقى ونالها بالتأكيد كثير من التحريف على ألسنة الرواة، فلم يعد بإمكان أحد اليوم أن يعرف، ولو على وجه التقريب، حقيقة تلك الألحان التي تروي كتب التاريخ أنها كانت تبلغ أحيانا درجة من الروعة تجعل بعض الخلفاء والملوك والأمراء يفقدون صوابهم لدى سماعها، فهذا يمزق ثيابه وذاك يرمي بنفسه في بركة قصره وثالث يقسم على مطربه ألا يعود إلى بيته إلا مشيا على الذهب... وهي أقوال وإن كان فيها أحيانا شيء من المبالغة فإنها لا تخلو دائما من الصدق وإن تعذر إحياء تلك الألحان. ورغم هذه الآفة التي لحقت بالموسيقى العربية عموما، ومنها الموسيقى الأندلسية فإنه يمكن تسطير الملامح العامة لما كانت تتميز به المدرسة الموسيقية الأندلسية، وذلك استنادا إلى أقوال المؤرخين وملاحظاتهم من جهة، ومن جهة ثانية اعتمادا على ما يفضي إليه تحليل الموسيقى الأندلسية المغربية الحالية، وهي الموسيقى التي تعتبر الوريثة المباشرة للموسيقى الأندلسية لعدة اعتبارات، أهمها تجاور العدوتين المغربية والأندلسية، وخضوعهما مدة طويلة لحكم واحد خلال العهد المرابطي والموحدي، واستقبال المغرب لأغلب المهاجرين الأندلسيين بعد نزوحهم من بلادهم إثر سقوطها في أيدي المسيحيين، وحفاظه على استقلاله في وجه التوسع العثماني وبالتالي إفلات موسيقاه من تأثير الموسيقى التركية.
ويستدل من أقوال المؤرخين أن الأندلسيين كانوا، على الأقل في بداية عهدهم بهذه البلاد، يحنون إلى كل ما هو من الشرق، وأنهم ظلوا مدة طويلة يستقدمون الموسيقيين والمغنين من المشرق، ومنهم زرياب الذي ترك بصمته القوية على هذه الموسيقى، وبالتالي فإن الموسيقى التي كانت لها الحظوة عندهم هي الموسيقى العربية القديمة التي كان إسحاق الموصلى أحد المحافظين عليها، وهي التي لقنها لتلميذه زرياب الذي نشرها بدوره في الأندلس، وتتميز هذه الموسيقى على وجه الخصوص باستعمال السلم الموسيقى الطبيعي المعروف بالبيتاغوري، وربط الطبوع الموسيقية (أي المقامات في الاصطلاح الشرقي) باعتبارات فلكية وروحية، واتباع طريقة مخصوصة في الغناء تسمى النوبة، وهي عبارة عن مجموعة متتابعة من القطع الغنائية والآلية المؤداة على طبع (أو مقام) واحد، وعلى إيقاعات مختلفة، وبحركة تبدأ ببطء في مستهل النوبة لتنتهي بسرعة كبيرة في نهايتها. وكل نوبة تحمل اسم الطبع الذي لحنت عليه وتؤدى في ساعة مخصصة لها، وهي الساعة التي يعتقد أن تأثير ذلك الطبع يكون فيها أقوى في النفوس من أي وقت آخر.
وقد تركت شخصية أخرى أثرها القوي على هذه المدرسة، وهي ابن باجة الذي كان منظرا كبيرا، وملحنا متميزا، وعازفا بارعا على العود، وكان ينهج طريقة خاصة في تلاحينه، يعمد فيها إلى إدماج عناصر موسيقية شرقية بأخرى محلية مسيحية، وقد نالت إقبالا عظيما، وعرفت شهرة واسعة. يقول عنه أحمد التيفاشي :" واعتكف مدة سنين مع جوار محسنات، فهذب الاستهلال والعمل (من الأجزاء المكونة للنوبة) ومزج غناء النصارى بغناء المشرق، واخترع طريقة لا توجد إلا بالأندلس، مال إليها طبع أهلها فرفضوا ما سواها..."[13].
وفي غياب تفاصيل أخرى عن هذه الطريقة وانعدام أية نصوص موسيقية مدونة تعطي فكرة عن الألحان المؤلفة بها فإنه يصعب معرفة الجديد الذي أتى به ابن باجة والذي عمل تلاميذه على الحفاظ عليه ونشره.
وإذا ما حللنا الطبوع التي تستخدمها حاليا الموسيقى الأندلسية المغربية فإننا نلاحظ أنها –وإن اشتركت مع الطبوع المستعملة في الموسيقى الأندلسية الجزائرية في بعض الخصائص- فإنها تختلف اختلافا بينا عن الطبوع والمقامات التي تستخدمها موسيقى باقي الأقطار العربية، فهي ذات سلالم طبيعية خالية من أرباع أو ثلاثة أرباع الصوت، كما أن سلالمها لا تنقسم كلها إلى عقود أو أجناس كما هو الحال بالنسبة للمقامات الشرقية، وبعض هذه الطبوع لا نجدها في الوطن العربي خارج الموسيقى الأندلسية الخاصة بالمغرب والجزائر، وهي موجودة في بعض أقطار أوربا الشرقية الجنوبية، وفي الغناء الكنسي، كطبع رمل الماية وحمدان والصيكة.
ويمكن تقسيم سلالم هذه الطبوع إلى ثلاثة أقسام:
1. سلالم طبيعية (بيتاغورية) ومنها سلالم طبوع رمل الماية والحسين والصيكة وحمدان والأصبهان والمية... (نماذج موسيقية تؤدى بصوت صاحب البحث)
2. سلالم مركبة تحمل طابعا شرقيا واضحا وتتركب من عقود على غرار المقامات الشرقية، ومنها طبوع الحجاز الكبير والزوركند والزيدان... (أمثلة).
3. سلالم ذات طابع خماسي، ومنها طبوع الرصد والحصار والديل. وتوجد آثار لهذا السلم في مقاطع كثير من الصنائع الملحنة على طبوع أخرى. (أمثلة).
والمتأمل في هذه الطبوع والصنائع الملحنة عليها يلمس فيها مؤثرات أندلسية محلية وأخرى شرقية وأخرى أمازيغية تعكس الانصهار الذي حصل بين الثقافات الموسيقية العربية والأمازيغية والإسبانية.
الآلات الموسيقية:
ازدهرت صناعة الآلات الموسيقية في الأندلس وتعددت أنواع هذه الآلات نتيجة لما عرفته الموسيقى من انتشار واسع، وما حظيت به من رعاية وتشجيع من لدن الطبقة الحاكمة. وقد ازدهرت هذه الصناعة في كثير من المدن، وخاصة منها إشبيليا التي قال عنها أبو الوليد الشقندي المتوفى سنة 1231م في رسالته في فضل الأندلس إنها "قاعدة صناعة الملاهي وآلات الطرب، وليس في بر العدوة من هذا شيء إلا جلب إليه من الأندلس"[14].
وإذا أحصينا عدد الآلات التي ذكرها الشقندي في هذه الرسالة وتلك التي ذكرها ابن الدراج السبتي المتوفى سنة 1294م في كتاب الامتناع والانتفاع، وأحمد التيفاشي المتوفى سنة 1253م في كتاب متعة الأسماع في علم السماع، وأضفنا إليها أسماء غيرها من الآلات المذكورة في مصادر أخرى فسنجد أن عددها يفوق سبعين آلة ما بين وترية وهوائية وإيقاعية، بعضها معروف وما زال متداولا، وأغلبها مجهول أو انقرض. وقد ظهرت صور بعض هذه الآلات ضمن الإحدى وخمسين منيمنة التي تزين "أناشيد القديسة مريم" (Las cantigas de Santa Maria) التي أمر الملك ألفونسو العاشر بجمعها في القرن 13م، وبعضها يمثل موسيقيين مسلمين يعزفون على آلاتهم بمعية موسيقيين مسيحيين، الأمر الذي يستنتج منه أن هذا المشهد كان مألوفا في ذلك العصر.
إشعاع الموسيقى الأندلسية:
بلغت الحضارة العربية الإسلامية درجة من التطور والرقي جعلتها تؤثر تأثيرا قويا على مختلف مجالات الحياة في أوربا وتمهد الطريق لقيام «النهضة» بها. وكانت الأندلس أحد المعابر الأساسية لدخول المؤثرات الحضارية العربية إلى أوربا، والموسيقى-باعتبارها لغة سريعة الانتقال، لا تعرف الحدود ولا تحتاج إلى ترجمة لفهمها والتخاطب بها-كانت من الميادين الأولى التي ظهرت عليها آثار الحضارة العربية الإسلامية، سواء على مستوى الألحان أو الكلمات أو الآلات.
فعلى مستوى الألحان نجد أن الموسيقى العربية أثرت على ألوان مختلفة من الموسيقى في جنوب غرب أوربا، بما فيها الدينية، وهكذا نجد أن الترتيل الكنسي الإسباني المعروف بالإيزيدوري أو الأوجيني (Plain-chant isidorien ou eugénien) نسبة إلى واضعيه: القديس إيزيدور والقديس أوجين، قد اصطبغ بصبغة شرقية، وزين بكثير من الزخارف الموسيقية المميزة للموسيقى العربية، فأصبح معروفا بالترتيل الكنسي "المستعرب" (mozarabe)؛ ومعلوم أن الدولة الإسلامية في الأندلس قد ضمنت لأتباع كافة الديانات السماوية حرية العبادة وسمحت لهم بالحفاظ على تقاليدهم وعاداتهم، وإذا كان الغناء الديني نفسه قد تأثر بالموسيقى العربية على هذا النحو فإن الغناء الدنيوي قد تأثر بها على نحو أعمق، خاصة في إسبانيا والبرتغال، ومنها الأغاني المعروفة ب Las seguidillas وlas soleares، ومنها أيضا الأغاني التي ظلت محافظة على أسمائها العربية مثل Las zambras وLas hudas وLas aravias أي أغاني السمر والحداة والأغاني العربية... ومنها أيضا أغاني الفلامنكو الشبيهة جدا بالمواويل العربية.
ومن مظاهر هذا التأثير كذلك اتباع قالب النوبة في التأليف الآلي الغربي المعروف ب Suite أو "الوصلة"، وهي مجموعة من القطع الآلية تتبع في أدائها حركات مختلفة تبدأ عموما بافتتاحية غير موزونة تعقبها حركات تتدرج سرعتها من الثقيلة (الموسعة) إلى الخفيفة السريعة ("المصرفة")، وهذا هو النظام المتبع في أداء ميزان النوبة. وتشترك الوصلة (la suite) مع النوبة في خاصية أخرى، وهي وحدة المقام أو الطبع (Tonalité) الذي تلحن عليه قطعها. ويلاحظ أن كلمة suite ليست سوى ترجمة لكلمة نوبة وأن للفظتين مدلولا واحدا.
وأثرت الموسيقى الأندلسية كذلك على نظيرتها الغربية بشعرها الغنائي، وهكذا نجد أن الأشعار التي كان يتغنى بها شعراء التروباور (Troubadours) في إقليمي بروفانسيا ولانكدوك بجنوب فرنسا، وشعراء الطروفير (Trouvères) في شمالها، والمينيسانجر (Minnesangers) في ألمانيا، كانت من حيث القالب والمضمون مستوحاة من الموشح والزجل، وهي تقتبس منهما نفس الأغراض، وتستخدم نفس الصور والمعاني، بل وتذهب إلى حد مخاطبة الحبيبة بصيغة المذكر وتشبيهها بالغزال-الحيوان الغريب عن البيئة الأوربية- والشكوى من الرقيب والحاسد، والعاذل... إلى غير ذلك مما لم يكن معروفا في الأدب الغربي قبل احتكاكه بالأدب العربي الأندلسي؛ ويلاحظ أن "القصائد" التي تشتمل عليها "أناشيد القديسة مريم" المشار إليها سابقا تشبه إلى حد كبير أزجال أبي الحسن الششتري.
هذا ويلاحظ أيضا ظهور شعر عبري منظوم على غرار الزجل إلى جانب ترجمة وتقليد قوالب شعرية ونثرية من الأدب العربي إلى الأدب العبري.
أما على مستوى الآلات الموسيقية، فنجد أن كثيرا منها انتقل إلى أوربا وظل محتفظا باسمه الأصلي، ومن هذه الآلات العود (Luth بالفرنسية) الذي كان وما زال أهم آلة موسيقية عربية والذي كتب له أن يكون الآلة المفضلة للشعراء المغنين المتجولين من التروبادور والتروفير، ثم أصبح أهم آلة موسيقية خلال عصر النهضة، تفنن الصناع في زخرفته واخترعوا على غراره أنواعا جديدة بأحجام مختلفة، وتنافس الموسيقيون في التأليف له والعزف عليه، واستخدم كآلة فردية إلى جانب استخدامه ضمن المجموعات الآلية المختلفة، ولم يفقد مكانته في الموسيقى الأوربية إلا في منتصف القرن الثامن عشر عندما أزاحته وحلت محله الآلات ذات الملامس والأقواس.
ومن الآلات العربية التي انتشرت في أوربا كذلك الرباب (Rebec) والقيثارة (guitare) والبوق (buccin) والبندير (pandero) والدف (adufe) والطنبور (tambour) ... وبعض هذه الآلات كان هو الأصل الذي انحدرت منه آلات أخرى بعد عمليات التطوير والتحسين المتوالية التي كانت تخضع لها لمواكبة التطور التدريجي للموسيقى الأوربية، ومنها على سبيل المثال الرباب الذي تفرع عنه الكمان والألطو والتشيلو... ومنها أيضا آلة الشقير أو الشقرة التي ذكر عالم الآلات الألماني كورت زاكس أنها هي الجد الأعلى للبيانو، فأقدم اسم أطلق على هذه الآلة الأوربية هو Echiquier بالفرنسية، وهو تحريف للفظ العربي "الشقير" الذي ورد ذكره ضمن أسماء الآلات الموسيقية التي عددها أبو الوليد الشقندي في رسالته في فضل الأندلس، وكان هذا الاسم يطلق حتى القرن الرابع عشر على آلة صغيرة ذات ملامس بيضاء وسوداء تشبه البيانو.
ومعلوم أن الآلات الموسيقية لا تنتقل من ثقافة موسيقية إلى أخرى إلا ومعها قدر من تقنيات العزف عليها ومن الموسيقى الخاصة بها والتي صممت تلك الآلات أصلا لأدائها. ومما ساعد أيضا على نشر الموسيقى العربية وآلاتها في أوربا استخدام كثير من الموسيقيين المسلمين في بلاطات الملوك المسيحيين نظرا لكفاءائهم الفنية العالية وكذلك وقوع الآلاف من الأسرى المسلمين ذكورا ونساء في أيدي الأوربيين في أعقاب حروب الاسترداد، وذلك في شمال شبه الجزيرة الإيبيرية وفي أقاليم بروفانسيا وآكيتينيا ونورمانديا وبورغونيا..
بعد سقوط غرناطة آخر معاقل الإسلام في الأندلس، بدأ المسلمون يتعرضون لموجة من الاضطهاد لا مثيل لها في التاريخ، استهدفت محو وجودهم في هذه البلاد وطمس معالم حضارتهم فيها، فقد كان القتل والنفي أو السجن والتعذيب في انتظار كل من يرفض التنصر والذوبان المطلق في المجتمع المسيحي، وحرم على المسلمين ارتداء ملابسهم الوطنية والقيام بشعائرهم الدينية، والتخاطب بلغتهم العربية، بل وحتى ترديد أغانيهم وأهازيجهم، وهكذا انطفأت شعلة الموسيقى الأندلسية في موطنها الأصلي، ونزح ما تبقى منها مع النازحين إلى بلاد المغرب فرارا من الاضطهاد والكراهية والتعصب الأعمى؛ ومع أن هذه الموسيقى قد فقدت جراء ما وقع لها ولحَمَلَتها من محن ومآسي الكثير من رونقها وبريقها الأصليين، فإنها ظلت تلهم كبار المؤلفين الموسيقيين حتى عصرنا الحديث من أمثال غرانادوس ودي فايا وألبينيتز ورافيل وديبوسي وكورساكوف وكلنكا... وهي تعد اليوم، بقيمتها الأدبية والفنية، إرثا ثقافيا ضخما للبشرية جمعاء يتعين الحفاظ عليه وصيانته، وستظل عبر التاريخ مرآة لحضارة مشرقة وضاءة تمكن بُنَاتها بفضل تكافلهم وتسامحهم الواسع من أن يجعلوا من عهدها واحدا من أكثر عهود التاريخ رخاء وعطاء وإبداعا سواء بالنسبة للإسلام أو المسيحية أو اليهودية.
الحـواشي والمـراجع
I- الحـواشي:
"المختار من شعر بشار..." القاهرة – ص 16
"عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" ج5 –ص281- مكتبة المعارف-بيروت
العقد الفريد – ج26- ص8- مكتبة صادر- بيروت
ابن بسام- الذخيرة- ج3- ص318- 319
S. Hunke- le Soleil d’Allah brille sur l’occident
AlBin Michel -Paris P381
المقدمة –ص428- مطبعة دار القلم – بيروت (1981)
أحمد المقري- نفح الطيب، ج3-ص185
ابن سعدي- المغرب في حلى المغرب- ج2- ص119- تحقيق شوقي ضيف- مطبعة دار
المعارف- 1953
أحمد التيفاشي -"متعة الأسماع في علم السماع" مجلة الأبحاث- م21- ع2-3-4-1968-
ص114-115
درا الطراز – الورقة 13 و
ابن سعيد- المقتطف- ص 483
المرجع السابق- نفس الصفحة
متعة الأسماع (المرجع السابق)
نفح الطيب – ج3- ص213
II-المـراجع:
[1] عباس إحسان- تاريخ الأدب الأندلسي- بيروت 1960-1961.
[2] أبو الفرج الأصبهاني- كتاب الأغاني- بيروت 1970.
[3] Alain Daniélou-Traité de musicologie comparée - Paris 1959
[4] Dozy-Histoire des musulmans d’Espagne-leyde-1932
[5] Encyclopédie de la musique Dir.A. Lavignac. Paris, 1913-1922
[6] Rodolphe d’Erlanger-la musique arabe. Paris 1930-1959
[7] تاريخ الموسيقى العربية لهنري فارمر Henri Farmer ترجمة فتح الله المحامي- بيروت 1972.
[8] فيليب حتى-تاريخ العرب- بيروت 1966.
[9] Mahmoud Guettat-la musique arabo-andalouse-Paris 2001
[10] Sigrid Hunke-le Soleil d’Allah brille sur l’occident : notre héritage arabe- Paris 1963
[11] ابن عبد ربه- العقد الفريد- القاهرة 1950.
[12] ابن حزم – طوق الحمامة- القاهرة 1955.
[13] ابن خلدون – المقدمة-
[14]عباس الجراري- موشحات مغربية- البيضاء 1973- الزجل في المغرب- الرباط 1970.
[15]Levi- Provençal-Islam d’occident - Paris 1948
[16]ـ من كنوزها- فؤاد رجائي- حلب 1955
[17]ـ تراثنا الموسيقى- الجنة الموسيقية العليا- القاهرة
[18]ـ عبد العزيز بن عبد الجليل-مدخل إلى الموسيقى المغربية-الكويت- 1983.
القسم: الكتب الالكترونية
شعراء
ننقل لكم ماكتبه شعراؤنا على موقع "شعراء" ليصل الى جميع المهتمين بالشعر وأيضاً ننقل لكم كتب ومراجع أدبية تفتح لكم أفاقاً جديدة..
اشتراك
الحصول على كل المشاركات لدينا مباشرة في صندوق البريد الإلكتروني
شارك الموضوع
مواضيع ذات صلة
0 التعليقات: